نشأت المصرى: رواية «آخر» سرد حداثي متعدد التأويلات ويقتحم بجرأة المسكوت عنه

غلافة رواية آخر لمحمد القصبي
غلافة رواية آخر لمحمد القصبي

 

نشأت المصري

- الرواية جديرة بالاهتمام وترجمتها إلى اللغات الأخرى .

 تصادف أنني  قرأت في وقت واحد رواية "الاحتلال" للكاتبة الفرنسية آني إرنو   التى فازت مؤخرا بجائزة نوبل ،ورواية  "آخر"  للكاتب الصحفي الروائى محمد القصبي، ورأيت أن  الاحتلال سمة مشتركة بينهما، حيث احتلت امرأة أخرى مكان بطلة أرنو لدى زوجها وعشيقها نفسيا وجنسيا ، وظلت رغباتها القديمة تطاردها الى آخر الرواية القصيرة  وهى أقرب إلى حجم النوفلا، وظل شبح المرأة الاخرى يؤرقها وهى تتخيلها فى الأوضاع التى كانت تفضلها وتمارسها مع زوجها .


  بينما فى رواية  آخر  للقصبى يحتل (آخر) فكر ومشاعر وذاكرة بطل الرواية الحائر بنزعاته الحسية العاصفة، وحول هذا الحائر تدور دوامات الرواية وتتركز، وتأتى بقية الشخصيات بما فيها زوجته "إيمان" محل الشك الدائم خادمة لهذا الطغيان الشعورى والجنسى الذى يستبد بالزوج الحائر ووسيلة لتفسير محنته ،وتتجسد نقطة البداية منذ سمع الزوج الحائر.. أو هكذا تصور . إيمان وهى تنطق باسم الأصلع القوى فى لحظة اشتعال المضاجعة ، وعمق الحائر حيرته بمتابعة دائبة للأحداث المحيطة به، وغذى صراخ الشك فى نفسه بقراءاته المستمرة بما يرسخ هذه الشكوك فيما ورد فى  جوجل وفى الكتب حتى أنه استعان بدار الكتب بحثا عن تفسير لما سمعه أو ظن أنه سمعه حول الأصلع القوى ، وعما يعتمل فى نفسه من نزعات مخزية لا يقدر على البوح بها للآخرين، خاصة نزعة الدياثة التى يفر من الاعتراف بها أمام نفسه، وتناطحت الأسئلة بداخله، هل هو ساخط على إيمان فعلا لأنها نطقت باسم الأصلع وهى بين أحضانه؟ وكأن الحائر مجرد بديل خيالى للأصلع فى الفراش؟ أم أنه استعذب الفكرة ولاقت هوى فى نفسه حتى أنه أحب أن تحكى له إيمان  ماكان مع عشيقها فى الفراش بالتفصيل، سألها مباشرة أن تحكى لكنها رفضت، أو لم تجد ما تقوله وهى حائرة فى فهم ما يصبو إليه زوجها الحائر.

وحين أراد أن يحكى عن مأساته الجنسية لم يجرؤ على كشف مشاعر الدياثة الملتبسة، واكتفى بتصدير واقعة الخيانة التى يدل عليها نطقها لاسم الآخر، وهو ما ذكره لأخيه الذى اعتبر الأمر وهما كاملا . ومن حين إلى حين تطفو مشاعره السلبية التى تبين شبقه الداخلى المكبوت كديوث ،لكنه يسارع بطمس هذه الفكرة التى أصابته بالاهتزاز النفسى، ويصحبنا المؤلف إلى صور من الماضى البعيد لهذا الحائر ، كما يقف بنا طويلا مع سيرة سارتر وصديقته او عشيقته سيمون دى بوفوار التى تنطوى على عنصرى الخيانة والدياثة معا.، كأنه يهدف إلى تبرير ما هو فيه، فقد كانت سيمون تخون سارتر برضاه، وأقر سارتر مبدأ "أخونك" بمعرفتك ، ويصل الأمر بالحائر بعد ضجيج نفسى خطير وتناقض مستمر إلى الطبيب النفسى ليعالج نفسه باعتبار أنه يعانى من وسواس قهرىـ كما قال أخوه ـ وأيده الطبيب فى تشخيصه، لكن الزوج الحائر لم يفلت أبدا من قبضة المتناقضات حتى أنه فكر فى الانتحار ( فصل 21 ) رائيا أنه شجاعة وليس جبنا.


وقد جرب الحائر اللجوء إلى وسائل مختلفة لكى يهدأ خاطره، ويبصر الحقيقة، فعرض مشكلته على شيخ المسجد، وكان الشيخ فضوليا مزعجا مريبا بما تجاوز متطلبات المشكلة، ونصحه الشيخ بالاستمرار مع إيمان خاصة أنها مصلية ولم تعترف بما يتهمها به . وكلما سار الزوج فى طريق جديد بحثا عن مكنونات نفسه ورغباته السرية ، يصل إلى مفترق طرق آخر، وتلاحقه علامات الاستفهام من الماضى بلا جواب، حتى أنه سأل نفسه سؤالا وجوديا وهو : هل كان يتمنى أن يولد أويحيا فى هذا الكون؟ (فصل 15)، وتمنى فى لحظة أن يصبح عدما، وقد ذكرنى ذلك بتساؤلات بيرجينيت فى مسرحية هنريك ابسن التى تحمل ذات الاسم، والتى انتهت إلى أن بيرجينيت فضل الحياة مع العذاب على العدم . إلا أن بطلنا الحائر فى رواية آخر لم يصل إلى إجابة حاسمة.


  الرواية تواجه المسكوت عنه بجرأة فى التناول ـ دون ابتذال ـ وفقا لمقتضيات الحالة، فيطرح علينا شيئا من قصة النبى يوسف كما وردت فى القرآن، وشيئا عن طارق رمضان حفيد حسن البنا، وبعض صور الاغتصاب، وواقعة الإفك بمفهوم خاص، يدفعه إلى التفكير فى حالته مع زوجته إيمان ( فصل 18 )، ثم يعرج إلى التكييف الدينى للدمية الجنسية ( سامنتا ) وموقف الزوجات منها، فيقول له أخوه الذى يقارنه بسيزيف.. لا داعى للخيانة مع وجود سامنتا التى أجازها مفتى استراليا الشيخ مصطفى راشد ( فصل 20). فضلاعن الاستشهاد بالتاريخ على مدى الرواية .


  وقد وفق الروائى محمد القصبى فى تقديم شخصية الصحفية منال الشناوى، وحواراتها التى تستكمل خفايا الصورة، والتى وسعت مساحة التساؤلات والإجابات المحتملة.


  وتفيض الرواية بلقطات لا تنسى أججتها نيران القلق والخوف حيث  مواجهة الحائر بما يضطرب فى أعماقه، فيظل نهبا للتمزق بين ما يرغب فيه ومالا يقدرعليه خاصة حين يرتبط ذلك بإرادة الآخرين الملاصقين له، وأولهم بالطبع إيمان التى أبدت تجاوبا مع مشاعره التى اعترف ببعضها لإيمان بشكل غير مباشر أثناء مضاجعته لها، لكنه عجز عن الإفصاح عن أهم هواجسه حتى لا يصطدم بالاحتقار او الرفض.، فارتفعت فى أعماقه ألسنة الرغبات السجينة فلاذ بتجارب الغير من خلال اطلاعه الواسع.


   نحن اذن بصدد الحائر المثقف الذى لا يعانى من مشكلات اقتصادية، حيث استقال من وظيفته ونجح فى مهنته الحرة، لكنه الانسان حين يختلى بنفسه ويراها على حقيقتها التى تفزع السائد والمعقول والمفروض الذى عاش فى إطاره مدى عمره، والذى لا يعبر عن خصوصيات مشاعره التى قد يرفضها الآخرون، فتؤجج  أزمته، ويتهرب من الاعتراف أمام نفسه، بينما هو يطالب الغير كإيمان مثلا  بالاعتراف بما قد يكون مجرد وهم كمضاجعة الأصلع لزوجته إيمان ذات يوم .


  ولعلك تلاحظ اننا استخدمنا كثيرا لفظ قد، قد. قد. لأن الرواية بالفعل نجحت فى أن تلقي بنا فى متاهات القلق وعدم اليقين، بما يحقق مستوى عاليا من التشويق، وقد استخدم الكاتب دون إسراف آليات الرواية الحديثة وأدوات روايات ما بعد الحدائة من حيث تعدد الأصوات ، والقفز على رتابة الاحداث . ووصف الأشياء بمسمياتها دون التواء ، واختصار مشاهد طويلة تمثل عبئا على الرواية، وطزاجة الأسلوب، والاستخدام الأمثل للحوار بين الحائر وبين نفسه وبينه وبين الآخرين، كما قدم لنا الكاتب خلاصات مهمة من الفكر والتاريخ وتجارب الآخرين أفادت وأضافت وأمتعت، وربما يكون اختصار شروح بعض هذه المعلومات فى صالح الرواية والتفاعل المتواصل معها.


  ومنذ البداية  أخذتنا الرواية على جناح التشويق، بتتابع ثرى ومثير للأفكار والحوادث، فنحن بإزاء نوفيلا جميلة قدمها الكاتب فى كلمات مكثفة تنقلنا إلى أعماق اللحظات مثل : تنزلق قدماه فى تيه الشوارع / ذاكرته فوهة بركان / تتأوه باسم آخر /.... وهكذا.   وحسنا لجأ الكاتب إلى الفصحى فى الحوار/ كما أن الحوادث تواترت متلاحقة وامضة، كمشهد الوصول إلى مرحلة الكرسى المتحرك، ناهيك عن براعة استخدام الفلاش باك ، بما حقق تزامنا مع اهتزاز الحائر النفسى.


  وقد أجاد الكاتب فى تقديم صور اجتماعية ايجابية موازية كالتماسك الاجتماعى كما هو الحال بين الحائر وأخيه،وكذلك العلاقة بين إيمان وأخيها الذى يعرض السفر مع زوجها فى رحلة علاجية إلى ألمانيا.


  وجميل أن يتمكن الكاتب من السيطرة على قلمه فى ايضاح الملابسات المقصودة  فقط فى لحظات المضاجعة، وهو ما يراه بعض الكتاب فرصة للاسهاب فى الوصف بلا مبرر طمعا فى جمهور أكبر أو جائزة لا تبالى بالعمق الفنى والغايات الاجتماعية والنفسية، وكاتبنا  يشترك مع رواية الاحتلال للروائية أرنو التى لم تسرف  فى تجسيد المواقف الإباحية رغم ثقافتها المجتمعية التى لاتعارض ذلك.


  نحن بصدد رواية نفسية اجتماعية، تعامل فيها المؤلف مع المعلومات المطروحة مباشرة دون الدوران حولها، بما يتلاءم مع المنجزات الحدائية فى الرواية. ومما يحسب لرواية  آخر  أنها تفسح للقاريء مجالا للمشاركة بالتفسير والترجيح وإبداء الرأي .


وأظن أن الكاتب حرص على أن يخفى وجهة نظره عن طريق الراوى العليم الذى لم يكن عليما فى العديد من النقاط حتى لا يفسد علينا متعة الشك ، والتوقع المخالف، بحيث يصل القارىء إلى رأى من عندياته هو، ولم نسلم بالتالى بما سعى إليه الحائرلإدانة زوجته ايمان يالخيانة، وكانت معالجة شائكة واحترافية وذكية لما تنطوى عليه نفس الحائر من رغبة متوغلة فى وجدانه تنتهى إلى أشواق الدياثة ، وقد ترك الكاتب لنفسه ولنا العنان لنسبح مع تيارات الواقع ورياح الماضى ، وجعل للتخيل فى اليقظة والحلم مكانا ومكانة، وتتحرك دهشتنا حين نتابع الحائر فى لحظات ضيقه ووساوسه التي يتلذذ بها أحيانا في حس ماسوشى واضح .

كما إن الحائر فى مواجهة مستمرة دون إعلان ضد ال ( آخر ) بما يكسر رتابة التوقعات . 


  ومن المفارقات التي لا تنسى في هذه الرواية البديعة  مشهد إيمان وهى تغسل قدمى الحائر بالماء المالح، ثم تصورها فى الفراش وقد استبدلت الحائر بـ ( آخر ) فى مدارات التخيل، نحن أمام عمل جرىء متعدد التأويلات، شائق، حداثى، أفضل بكثير من رواية الاحتلال لأرنو، فى ابتكارية الفكرة ، وجودة السبك الفنى، لذا ندعو إلى ترجمتها من قبل مشاريع الترجمة فى وزارة الثقافة.


وأخيرا يحضرني قول الآرجنتينى بورخيس أن الرواية تمتد ولا تنتهى إذا أطلقنا العنان للتفاصيل والتفريعات، وقد استطاع محمد القصبى فى ( آخر ) أن يحاصر الامتدادات ، ويقدم روايته فى ثوب فاتن يتماهى مع المنجز الروائي الحديث.